Library

Article

Politics

خلاصات الانتخابات البلدية اللبنانية لعام 2025: على صعيد العملية الانتخابية نفسها

Published on July 04, 2025

Share This
Font Size
بعد غيابٍ دام تسع سنوات، عادت الانتخابات البلدية لتضخّ شيئًا من الحيوية في الجسد اللبناني المرهق...

بعد غيابٍ دام تسع سنوات، عادت الانتخابات البلدية لتضخّ شيئًا من الحيوية في الجسد اللبناني المرهق. فقد أُنجز هذا الاستحقاق أخيرًا في مواعيده، بعد سلسلة من التأجيلات استمرّت نحو ثلاث سنوات، تراكمت خلالها الأزمات إلى أن وصلت نسبة البلديات المنحلّة إلى حوالي 10%، فانتقلت صلاحياتها إلى المحافظين والقائمقامين، بدلًا من أن تبقى في يد ممثلي الناس المنتخبين.

نقدّم في هذه الورقة مراجعة لتجربة الانتخابات البلدية الأخيرة، مقسّمة إلى شقّين:

  • يركّز الشق الأول على تقييم العملية الانتخابية من حيث الآليات التنظيمية والاجرائية والقانونية للانتخابات.
  • بينما يخصّص الشق الثاني لتحليل نتائج الانتخابات من الزاوية الحزبية وما تحمله من دلالات سياسية وتمثيلية.

نتناول في هذه المقالة الشق الأول من تقييم وتصويب مقترح للعملية الانتخابية نفسها من ثغراتها وآفاق تطويرها على أن تستتبع هذا المقالة لاثنتين على صعيد التقييم الحزبي وعلى صعيد المشهدية الانتخابية البيروتية.

أولًا: تقييم العملية الانتخابية والمراجعات المطلوبة

يُحسب للدولة اللبنانية، بمؤسساتها كافة، نجاحها في إنجاز الاستحقاق الانتخابي البلدي في موعده، رغم الظروف السياسية والاقتصادية البالغة التعقيد. فالتزامها بإجراء الانتخابات في ظل هذه الأزمات يشكّل بحد ذاته محطة يُشاد بها، ويؤكد على أهمية الحفاظ على آليات التداول الديمقراطي، حتى في أصعب اللحظات.

لكن في المقابل، لم تنجح هذه الانتخابات في حجب العيوب البنيوية التي تطبع النظام الانتخابي البلدي، والتي تسلبه كثيرًا من دلالاته التمثيلية والإنمائية. فصحيح أن إجراء الانتخابات بالقانون والآليات الحالية كان مقبولًا كحل مرحلي في هذه الدورة، إلا أن ما كشفت عنه التجربة من ملاحظات ملموسة وخلل متراكم في بنية العملية الانتخابية، يؤكد الحاجة الملحّة إلى مراجعة شاملة تطال القواعد والآليات والمفاهيم التي تنظّم الانتخابات البلدية في لبنان.

  • آليات الفرز:
    لا يزال لبنان يعتمد أسلوبًا تقليديًا ويدويًا في الاقتراع والفرز، حيث يُطلب من رؤساء الأقلام والمندوبين قضاء الوقت أيام وليالي في عدّ أوراق مكتوبة بخط اليد أو المطبوعة، بكل ما تحمله هذه العملية من إمكانية للأخطاء والتلاعب والتأخير وهو ما ظهر في معظم الدوائر التي رصد فيها عشرات حالات الاغماء لرؤساء أقلام ومندوبين جراء الضغط ناهيك عن رصد مئات الملاحظات عن مخالفات في عمليات الاقتراع والفرز.
    العالم تخطّى منذ زمن هذه الممارسات، وبات يعتمد على أنظمة اقتراع ممكننة وشفافة تختصر الوقت وتحدّ من التدخلات وتعزّز الثقة بالنتائج.
  • تجانس الفريق البلدي:
    العمل البلدي، لا سيما في المدن الكبرى، يتطلّب مجالس متجانسة قادرة على اتخاذ القرار وتنفيذه ضمن رؤية موحدة. إلا أن النظام الانتخابي الحالي، القائم على الترشح الفردي وفق قاعدة الأكثرية البسيطة، يُنتج مجالس بلدية هجينة، تتكوّن من أفراد ينتمون إلى لوائح وتوجهات مختلفة، ما ينعكس مباشرة على فعالية المجلس وقدرته على إدارة الشأن العام.
    هذا ما حصل بوضوح في بلدية طرابلس على سبيل المثال، حيث أدّى النظام الفردي إلى فوز مرشحين من اتجاهات متباينة، توزعوا بالتساوي داخل المجلس (12-12)، ما تسبب بشلل فوري، استقالة نصف الأعضاء، والدعوة إلى انتخابات جديدة.
    الحل لا يكون بالإبقاء على نظام الترشح الفردي، بل في الانتقال إلى نظام انتخابي قائم على اللوائح المقفلة، على الأقل في المدن الكبرى، بحيث يُنتج المجلس كتلة متجانسة قادرة على العمل والإنجاز، وتحمّل المسؤولية أمام الناس. إن غياب هذه الصيغة يقوّض أصل الفكرة من وجود مجلس بلدي منتخب، ويحوّله إلى ساحة تصادم لا ساحة قرار كما يمنع إمكانية المحاسبة.
  • واقع لوائح الشطب ونسبة الاقتراع المضلّلة:
    تعاني لوائح الشطب في لبنان من فوضى مزمنة تنعكس سلبًا على نزاهة العملية الانتخابية ودقة التمثيل. فهي تتضمن أعدادًا كبيرة من المهاجرين الذين غادروا البلاد منذ سنوات طويلة، وأسماء لعائلات اندثرت ولم يعد لها وجود فعلي، بالإضافة إلى إدراج متوفين لعدم تحديث السجلات بانتظام. كما تشمل أسماء العسكريين الذين لا يحق لهم قانونًا الاقتراع، لكنهم لا يزالون ضمن اللوائح. على سبيل المثال، لا يزال هناك حوالي 3980 اسمًا من الإسرائيلية (يهودية) لا يزالون مسجلين في لوائح شطب بيروت، رغم انعدام أي حضور واقعي لهم في المدينة.
    نتيجة لهذا التضخّم الوهمي في أعداد الناخبين، تُصبح نسبة المشاركة المعلنة مضلّلة. فبينما تُظهر الإحصاءات الرسمية نسب اقتراع متدنية، فإن الواقع أكثر انخفاضًا، لأن قاعدة المقارنة تضمّ آلاف غير المقيمين أو غير المؤهلين أصلًا للاقتراع. ما يعطي صورة زائفة عن مستوى الانخراط الشعبي، ويُستخدم سياسيًا للتقليل من حجم الأزمة التمثيلية أو لتبرير الإبقاء على النظام القائم دون إصلاحات.
    الأخطر أن الجهات الرقابية الدولية والمراقبين المحليين يعتمدون على نسب الاقتراع كمؤشر أساسي لقياس شرعية الانتخابات ومدى تمثيلها الحقيقي. بالتالي، فإن أي خلل في لوائح الشطب ينعكس مباشرة على صورة الانتخابات أمام الرأي العام المحلي والخارجي. من هنا، تصبح تنقية اللوائح وتحديثها بانتظام، وربطها إلكترونيًا بسجلات الأحوال الشخصية، أولوية إصلاحية لا تحتمل التأجيل.
  • الاقتراع في غير مكان الإقامة:
    يفتقر النظام البلدي الحالي إلى مبدأ التمثيل الحقيقي للسكان، إذ يُسمح لأشخاص غادروا البلاد منذ سنوات طويلة بالمشاركة في انتخاب المجالس البلدية، في حين يُحرَم آلاف السكان المقيمين فعليًا في المدن والبلدات من أن يكون لهم رأي في الشأن المحلي، لمجرد أن قيدهم الرسمي مسجّل في دائرة أخرى.
    هذا الخلل يُفرغ العملية الانتخابية من بعدها التمثيلي، ويقطع الصلة بين من يتخذ القرار البلدي ومن يتأثر فعليًا بالخدمات البلدية ومشكلاتها. فكيف يمكن لمدينة أن تُدار من مجلس منتخب لا يمثل من يعيش فيها، بل يستند إلى ناخبين غائبين لا تربطهم علاقة مباشرة بحياتها اليومية؟
    من هنا، تبرز الحاجة إلى صيغة تتيح للمقيمين أن يكون لهم دور في انتخاب المجالس البلدية في أماكن إقامتهم الفعلية، ولو كان قيدهم الإداري في دائرة أخرى. سواء عبر تعديل في قانون القيد أو فتح باب تسجيل انتخابي اختياري مرتبط بمكان الإقامة، فإن أي مسار إصلاحي جدي لا بد أن يبدأ بإعادة تعريف \"الناخب\" على أساس الواقع، لا الورق.
  • سن الاقتراع:
    لبنان من الدول القليلة التي لا تزال تعتمد سن 21 عامًا كشرط للاقتراع، في وقت يُظهر فيه الشباب، حتى من هم دون سن 18، قدرة عالية على التعبير والمشاركة والإبداع. تخفيض السن إلى 18 لم يعد مطلبًا سياسيًا فقط، بل ضرورة ديمقراطية تعكس الواقع الاجتماعي.
  • تمثيل المرأة والشباب:
    لا تزال مشاركة النساء والشباب في العمل البلدي ضعيفة جدًا. وقد آن الأوان لاعتماد سياسات جريئة تحفّز انخراطهم، عبر كوتا مرحلية أو دعم لوجستي وتشريعي، يعكس التنوع الحقيقي في المجتمع.
  • الصلاحيات غير المحددة:
    رغم أن قانون البلديات يمنح المجالس سلطات واسعة، إلا أن غياب قانون ناظم عام يحدد بدقة آليات الممارسة، يُبقي هذه الصلاحيات عرضة للاجتهادات أو للفراغ الإداري.
    فالمجلس قد يصدر قرارات، لكن تنفيذها قد يُجمد بسبب التضارب مع صلاحيات المحافظ أو بسبب غموض القانون. هذا الوضع يقيّد فعالية المجالس، ويجعل الإنجاز البلدي مشروطًا بإرادة سياسية أو بتفسير إداري متقلب.
  • تمويل البلديات:
    تعاني البلديات من غياب التمويل المنتظم والمستقر، ما يحد من قدرتها على تنفيذ المشاريع والخدمات. يعتمد التمويل على عائدات الصندوق البلدي المستقل، الذي غالبًا ما يُوزع بتأخير، أو يتأثر بالضغوط السياسية، لا بالمعايير الموضوعية.
    كما أن بعض البلديات تعاني من شح مالي مزمن يجعلها عاجزة حتى عن تأمين رواتب موظفيها. المطلوب تحديث آلية التمويل، وربطها بالخطة التنموية وبمؤشرات أداء واضحة، تضمن الشفافية والعدالة في التوزيع.
  • الوصاية الإدارية المفرطة:
    لا تزال المجالس البلدية خاضعة لوصاية المحافظين والقائمقامين الذين يستطيعون تعطيل قراراتها خاصة في بلدية مثل العاصمة بيروت حيث يحصر الجهاز التمثيلي في شخص المحافظ دون المجلس البلدي أو رئيسه. هذه العلاقة يجب أن تُعاد صياغتها بما يعزّز الاستقلالية ويحول الوصاية إلى رقابة إدارية قانونية غير تعسفية.
  • البلدات غير المشمولة بالخريطة البلدية:
    لا تزال هناك مناطق في لبنان غير مغطاة ببلديات فعلية أو مقسمة وموزعة بطريقة غير منطقية أوجغيرافيا، ما يحرم سكانها من التمثيل والخدمات الحقيقية وذلك فقط لأسباب ادارية أو سياسية وطائفية. لذلك يجب استكمال الخريطة البلدية عبر معايير علمية تعكس الواقع المحلي بشكل أكثر دقة.
  • غياب التخطيط التنموي المحلي:
    أغلب البلديات لا تمتلك خططًا تنموية فعلية، ولا قواعد بيانات عن الحاجات المحلية، ولا مؤشرات أداء واضحة. عملها غالبًا ارتجالي، مرتهن للأولويات العشوائية أو للاستجابة للضغوط اللحظية.
    من الضروري فرض إعداد خطة تنموية تشاركية كل أربع سنوات، تُراجع دورياً وتُنشر للعموم، لتتحول المجالس إلى مؤسسات فعالة ومساءلة في الوقت نفسه. هنا يكون دور الأجهزة الرقابية والرعية والمحافظين والقائمقامين ليكونوا داعمين ورعاة للخطط التنموية المحلية.
  • غياب الميزانية التشاركية:
    لا يشارك المواطنون فعليًا في تحديد أولويات الإنفاق البلدي، ولا توجد آليات مؤسساتية تُمكّنهم من اقتراح المشاريع أو مراقبة تنفيذها. الميزانيات تُعدّ وتُنفق في غياب النقاش المجتمعي، ما يُضعف الشفافية ويقلّص شعور الناس بملكية القرار.
    إدخال نموذج \"الميزانية التشاركية\" سيُشكّل قفزة في إشراك المواطنين، ويعزّز الثقة ويحوّل العمل البلدي إلى شراكة لا إلى وكالة.
  • ضعف الشفافية والمساءلة:
    نادراً ما تنشر البلديات محاضر جلساتها أو ميزانياتها أو تفاصيل إنفاقها، في ظل غياب رقابة مستقلة أو إعلام محلي فعّال. لا بدّ من تطوير بوابات إلكترونية وإجراءات محاسبة دورية بمشاركة المجتمع المدني.
  • في الختام، ليست هذه سوى أبرز النقاط التي توضح الحاجة إلى إصلاح شامل للعملية الانتخابية البلدية في لبنان. فالحفاظ على الانتخابات بحد ذاتها ليس كافيًا، إن لم تكن أداة حقيقية لتمكين الناس، وتعزيز التمثيل المحلي، وتحفيز التنمية. آن الأوان لإطلاق ورشة إصلاح بلدي حقيقية، تكون مقدّمةً لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، من القاعدة إلى القمة.
    خاتمة

    تكشف الانتخابات البلدية لعام 2025، رغم إنجازها في مواعيدها، عن عمق الأزمة التي يعاني منها النظام الانتخابي المحلي في لبنان. فالمشكلة لم تكن يومًا في إجراء الانتخابات بحدّ ذاتها، بل في البنية التي تُدار بها، والقواعد التي تنظّمها، والمفاهيم التي تحكمها. وبينما يُسجّل للدولة التزامها بإجراء الاستحقاق رغم الظروف الصعبة، فإن هذا الإنجاز يبقى محدود الأثر ما لم يُواكَب بإصلاح جدي وشامل يُعيد للعملية الانتخابية معناها التمثيلي والإنمائي.

    لقد سلّط هذا الجزء من الورقة الضوء على مكامن الخلل في جوانب متعدّدة: من آليات الاقتراع والفرز، إلى غياب الشفافية، وضعف المشاركة، وتشويه نسب الاقتراع، وانفصال الناخب عن مكان الإقامة، وصولًا إلى اختلال التوازن بين المجلس البلدي والسلطة الإدارية، والقصور في التمويل والتخطيط والمساءلة.

    كل واحدة من هذه الإشكاليات، منفردة أو متراكبة، تُفرغ الانتخابات من محتواها الديمقراطي، وتحرم المجالس المنتخبة من القدرة على العمل والإنتاج والتمثيل الفعلي. وعليه، فإن الورشة الإصلاحية المطلوبة لا تقتصر على تحسين بعض الإجراءات التقنية، بل تستوجب إعادة صياغة شاملة للنظام البلدي، تعيد الاعتبار للمحلي في مواجهة المركز، وتمنح الناس صوتًا حقيقيًا ومؤثرًا في إدارة شؤونهم اليومية.

    إن الورقة التي بين أيدينا تمهّد لمسار أوسع من النقاش والتقييم، سنستكمله في الجزءين المقبلين عبر تحليل نتائج الانتخابات من الزاوية الحزبية، ثم التوقف عند خصوصية المشهد البيروتي، بما يمثّله من تركيبة سياسية واجتماعية فريدة. أما الهدف الأبعد، فهو المساهمة في الدفع نحو نظام بلدي أكثر عدالة وفعالية وتمثيلًا، يعكس حاجات الناس ويواكب تحوّلات البلد من قاعدته إلى قمّته.

 

Share This