Article
PoliticsPublished on July 04, 2025
By: Mohammad Fawaz
بعد غيابٍ دام تسع سنوات، عادت الانتخابات البلدية لتضخّ شيئًا من الحيوية في الجسد اللبناني المرهق. فقد أُنجز هذا الاستحقاق أخيرًا في مواعيده، بعد سلسلة من التأجيلات استمرّت نحو ثلاث سنوات، تراكمت خلالها الأزمات إلى أن وصلت نسبة البلديات المنحلّة إلى حوالي 10%، فانتقلت صلاحياتها إلى المحافظين والقائمقامين، بدلًا من أن تبقى في يد ممثلي الناس المنتخبين.
جاء هذا الاستحقاق في لحظة سياسية دقيقة، وبعد سلسلة من التحولات التي عصفت بلبنان: من الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين، إلى الانهيار المالي والنقدي، وتفجير مرفأ بيروت، مرورًا بجولات من الاشتباكات الأمنية، وانتهاءً بحرب إسرائيلية مدمّرة أعادت طرح أسئلة كبرى حول موقع لبنان ونموذجه السياسي. كما تزامنت الانتخابات مع تحوّلات إقليمية متسارعة من سوريا إلى فلسطين وإيران، ما زاد من ثقل الاستحقاق ومراقبة نتائجه داخليًا وخارجيًا.
من هنا، جاءت الانتخابات البلدية كحاجة وطنية وضرورة مؤسساتية لإعادة تفعيل الإدارة المحلية، في مرحلة ناشئة يتوسم فيها اللبنانيون نمط حكم مختلف، تتعزز فيه المؤسسات، ويتقدّم فيه منطق التنمية المستدامة، وتتراجع فيه سطوة المركز لصالح تمكين السلطات المحلية. وقد اكتسبت هذه الانتخابات بُعدًا مضاعفًا، باعتبارها اختبارًا مزدوجًا: اختبارًا لمتانة الدولة ومؤسساتها، واختبارًا ميدانيًا لأحزاب السلطة والمعارضة والقوى التغييرية على حدّ سواء، في توقيت لا يسبق انتخابات نيابية مفصلية بأكثر من عام.
تأتي هذه الورقة الثانية ضمن سلسلة ثلاثية تهدف إلى مراجعة شاملة لتجربة الانتخابات البلدية لعام 2025. ركزت الورقة الأولى على تقييم العملية الانتخابية من حيث آلياتها التنظيمية والقانونية، واقترحت سُبل إصلاحها وتطويرها. أما هذه الورقة، فتنقل النقاش إلى مستوى التحليل السياسي، من خلال رصد أداء القوى الحزبية في مختلف المناطق، وفهم اتجاهات الناخبين، والبحث في ما أفرزته الانتخابات من ثبات أو تبدّل في المزاج الشعبي والتمثيل السياسي.
يُسجّل للدولة اللبنانية أنها نجحت في إجراء الانتخابات البلدية في موعدها، من دون تأجيل ومن دون مشكلات كبيرة تعرقل العملية الانتخابية. لكن هذا النجاح، وإن بدا إنجازًا في الظرف الراهن، دق في الوقت نفسه ناقوس الخطر بشأن قدرة النظام الانتخابي الحالي – في كل تفاصيله، من آليات الترشح إلى الفرز والمراقبة – على الاستمرار في دورات مقبلة. فالاستحقاق تمّ ضمن قواعد ونمط أثبتا محدوديتهما، ما يُحتّم في المستقبل القريب إعادة النظر الجدية في القانون الانتخابي نفسه، وفي أسلوب إدارة العملية الانتخابية، لا سيّما أن الحلول التقنية والتنظيمية متوفرة وميسّرة.
لذا، يمكن القول إن الدولة نجحت – نسبيًا – في اختبار انتظام المؤسسات، لكن هذا النجاح لا يمكن الركون إليه طويلًا، إذ إن ما كان مقبولًا اليوم (إجراء الانتخابات بحدّ ذاته) لن يكون كافيًا في المرات المقبلة، حين يرتفع سقف التوقعات الشعبية والسياسية وتصبح المعايير أكثر صرامة في تقييم الأداء المؤسسي.
يصعب اختزال الانتخابات البلدية في بعدها الحزبي فقط، خصوصًا في لبنان، حيث تتوزع جغرافيا لبنان على أكثر من ألف بلدية، تتداخل فيها الاعتبارات العائلية والعشائرية والشخصية مع الانتماءات الحزبية بشكل يجعل الفصل بين هذه العناصر معقّدًا، بل مستحيلًا في بعض الأحيان. فطبيعة النظام المحلي تفرض مزجًا بين المحلي والسياسي، الشخصي والحزبي، ما يجعل قراءة الأرقام والحسابات الدقيقة أمرًا ملتبسًا وغير دقيق.
لذلك، لا تبدو مقاربة الانتخابات من زاوية "الأرقام" و"النقاط" ملائمة أو كافية، بل الأجدى التوقّف عند المشهدية العامة، والتقاط بعض الأمثلة الدالة التي تُبرز اتجاهات أو تحوّلات معينة، وهو ما نفضّل اعتماده في هذه المقالة. فالأحزاب اللبنانية انخرطت بقوة في هذه الانتخابات، لكن وفق حسابات متباينة من بلدة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى، لكل منها أهدافها وتقديراتها الخاصة، ما يفرض قراءة مرنة وسياقية بدلًا من محاولة إنتاج سردية موحّدة أو شاملة.
يمكن اختصار أهداف الثنائي الشيعي في هذه الانتخابات بمحاولة تأكيد احتكاره التمثيل شبه الكامل للبيئة الشيعية، مع السعي إلى تخفيف كل أشكال الاحتكاك المحلي في القرى والبلدات، بغية جمع الكلمة وتوحيد الجهد في ظل الظرف التاريخي الراهن. ولتحقيق ذلك، ركّز الثنائي على توسيع نطاق التزكيات وتوحيد القواعد الشعبية خلفها، في ما يشبه تجديدًا للبيعة والثقة السياسية به.
وقد تُرجِم هذا التوجّه بخروج نحو 95 بلدية في الجنوب بالتزكية، ما يعكس حرص الثنائي على تثبيت وحدته التمثيلية وتفادي الصدامات التي قد تُضعف موقعه في هذه المرحلة الدقيقة.
أما في القرى التي شهدت انتخابات فعلية، فقد كانت الغلبة عمومًا للوائح الثنائي، مع خروقات محدودة في بعض البلدات مثل شمع، معروب، الدوير، المروانية، دير الزهراني، وتبنين. غير أن غالبية هذه الخروقات لا تُقرأ بوصفها خروجًا عن العباءة السياسية للثنائي، بل أقرب إلى تحركات اعتراضية داخل الديناميات المحلية، وهو ما يُضعف أثرها السياسي العام، ويقلّل من احتمال انعكاسها على مستوى التمثيل النيابي لاحقًا.
من هذا المنطلق، يمكن القول إن الثنائي نجح في تحقيق هدفه الأساسي في هذه الدورة، إذ أعاد تأكيد احتكاره للتمثيل السياسي للطائفة الشيعية، في محاولة لتثبيت هذه الثنائية بوصفها المرجعية السياسية الوحيدة، بغض النظر عن التحديات الإقليمية التي يواجهها حزب الله. ويبدو أن الحزب يسعى في هذه المرحلة إلى إعادة تعريف موقعه داخل الدولة، لا باعتباره "القوة الخارجية" المسلحة، بل من خلال التأكيد على امتلاكه التمثيل الشعبي والسياسي في الداخل.
صحيح أن بعض المناطق، مثل كفرحمام، شهدت مناكفات محلية بين حزب الله وحركة أمل، إلا أن هذه الخلافات بقيت تحت السيطرة، ولم تؤثر على وحدة الثنائي، بل على العكس، جاءت هذه الانتخابات لتؤكد – إلى حد بعيد – تماسك الثنائية واستمراريتها في هذه المرحلة.
ولعلّ من أبرز الملاحظات، كان الغياب العلني والإعلامي لماكينة حزب الله الانتخابية، في مقابل تصدّر حركة أمل للمشهد الإغلامي، ما يعكس استمرار تأثير مفاعيل الحرب الأخيرة، التي فرضت على الثنائي توزيعًا مختلفًا للأدوار الإعلامية والسياسية، ظهر خلاله حزب الله في موقع أكثر تحفظًا، فيما عزّزت حركة أمل حضورها في هذا الميدان. ويُفهم هذا التموضع في سياق الضربات الإسرائيلية المتكررة، والتي بلغت ذروتها في ضربتين عنيفتين: واحدة وقعت قبل الانتخابات البلدية مباشرة، والأخرى ليلة عيد الأضحى، واستهدفت ضاحية بيروت الجنوبية، في تصعيد هو من الأشد منذ انتهاء الحرب الأخيرة.
تركّزت الأنظار على الساحة السنية في هذه الانتخابات في ظل استمرار غياب تيار المستقبل عن غالبية المناطق، مع مراقبة دقيقة لإمكان بروز بدائل سياسية فاعلة. غير أن المشهد لم يشهد بروز قوة سياسية واحدة تمكّنت من ملء هذا الفراغ، بل بدا كأنّ حالة ما بعد انسحاب سعد الحريري لا تزال مستمرة، حيث يجري تمديد المشهد السابق دون تغييرات بنيوية واضحة.
رغم الغياب التنظيمي، بقي جمهور تيار المستقبل هو اللاعب المركزي في الساحة السنية. ففي صيدا، فازت اللائحة المدعومة من النائب السابقة بهية الحريري، فيما لم تستطع اللوائح المدعومة من مختلف الأحزاب أن تكتسح طرابلس. أما في بيروت، فخرق العميد محمود الجمل المسؤول السابق في تيار المستقبل اللائحة الرئيسية، عبر لائحة مدعومة من الجماعة الإسلامية والنائب نبيل بدر، والتي تمكّنت من احتواء جزء وازن من جمهور المستقبل، ما يدلّ على استمرار فعالية هذا الجمهور رغم غياب الماكينة الحزبية المركزية.
أما النائب فؤاد مخزومي، ورغم نجاحه في إيصال شخصية محسوبة عليه إلى رئاسة بلدية بيروت، إلا أن النتائج لم تُظهر توسّعًا حقيقيًا في كتلته التصويتية أو حضوره خارج العاصمة، لا سيّما بعد فشل لائحة مرجان التي تردد بأنها مدعومة منه في صيدا. ومع ذلك، فإن نجاح رئيس بلدية بيروت الجديد في تحقيق نتائج ملموسة قد يفتح أمام مخزومي فرصة التحوّل إلى لاعب سياسي بمستوى جديد، وإن كان ذلك مشروطًا بالأداء والنتائج في المرحلة المقبلة.
من جهة أخرى، سجّلت الجماعة الإسلامية نتائج لافتة. فرغم فشل لائحتها في صيدا، تمكن عدد من أعضائها من الفوز عبر لوائح مختلفة، وحققت نتائج مميزة في عدد من قرى البقاع وإقليم الخروب واستطاع تحالفها مع النائب بدر أن يخترق اللائحة الرئيسية في بيروت ولو بعضو واحد وهو ما يؤكد حضور الجماعة الاسلامية دون أن يعني ذلك تمكنها من تعبئة فراغ المستقبل أو التحول لتكون اللاعب الرئيسي على الساحة السنية.
أما جمعية المشاريع (الأحباش)، فقد فاجأت بموقعها الجديد في هذه الانتخابات، حيث خرجت من التموضع التقليدي كمكوّن ضمن محور حزب الله، إلى شراكة انتخابية مع مختلف قوى السلطة، بما في ذلك انفتاح سعودي ضمن لوائح بيروت وطرابلس. وقد أظهرت ماكينة الجمعية انضباطًا عاليًا، مكّنها من دخول المجالس البلدية في المدينتين، وإن بقي حضورها محصورًا بهما دون توسّع جغرافي أو شعبي ملموس خارج هذا الإطار.
في معظم المناطق السنية الأخرى، كان الحسم من نصيب الزعامات المحلية والنواب والقيادات التقليدية، الذين حافظوا على أدوارهم في إدارة التحالفات أو قيادة اللوائح.
تجدر الإشارة أخيرًا إلى تجربة "نسيج" في طرابلس، التي شكّلت مفاجأة، كونها تمثّل نموذجًا ناشئًا من القوى التغييرية المحافظة، يجمع بين جمعيات محافظة وشخصيات مجتمعية، وقد يفتح الباب أمام صيغة جديدة من التغيير إذا ما توفرت لها قيادة ورؤية قابلة للتوسّع خارج المدينة.
جدّدت القوات اللبنانية، من خلال هذه الانتخابات، تأكيدها على أنها الحزب المسيحي الأقوى تمثيلًا، محافظِة على مواقعها التقليدية، وعلى رأسها بشري، ومعزّزة حضورها في جبل لبنان، في مناطق مثل جونية وجبيل والجديدة، فضلًا عن زحلة، التي خاضت فيها ما اعتبرته "أم المعارك"، وحققت فيها فوزًا صريحًا على لائحة جامعة تضم مختلف القوى السياسية تقريبا، بفارق كبير اقترب من "الدوبل سكور".
في المقابل، تلقّت القوات خسارة في مدينة جزين، على الرغم من تأكيدها المسبق على صلابة موقعها هناك، ما جعل الخسارة أكثر رمزية، خصوصًا أن رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل اختار جزين لإلقاء خطاب بدا كأنه خطاب نصر سياسي. ومع ذلك، تقدّمت القوات في قضاء جزين، ما خفّف جزئيًا من وقع الخسارة في مركز القضاء.
لكن، ورغم التقدم في مناطق عديدة، لم تستطع القوات اللبنانية احتكار الساحة المسيحية، إذ خسرت أيضًا في بعض البلدات التي يُمثّلها نوابها، مثل دوائر جورج عدوان وشوقي الدكاش، وإن كانت الأرقام هناك لا تبدو ضعيفة، إلا أن المشكلة الأساسية في هذه القرى كانت في بعض صياغة التحالفات.
ما يُسجَّل بوضوح لصالح القوات اللبنانية، على المستوى الوطني، هو أداء ماكينته الانتخابية، التي تفوّقت على سائر القوى من حيث القدرة على اختيار المعارك، تنظيم التحالفات، إدارة الترشيحات، واستنفار الطواقم خلال يوم الانتخاب ومراحل الفرز. وقد مكّنها ذلك من التحكم في مسار العديد من المعارك، حتى دون أن تكون السيطرة شاملة أو متكاملة.
أما التحول الأكثر دلالة في هذه الانتخابات، فكان على صعيد التحالفات السياسية. إذ أدركت القوات، بعد سنوات من محدودية مروحة التحالفات، أن الكتلة النيابية التي تمتلكها لا تُترجم سياسيًا بما يكفي ما لم ترافقها مرونة في التحالفات. وقد بدا واضحًا أنها راجعت هذه القاعدة، فوسّعت خياراتها في مناطق مثل جونية، متحالفة مع نعمت افرام، وفريد الخازن، ومنصور البون، الذي أكّد رئيس الحزب أن التحالف معه "صلب وممتد لما بعد الانتخابات". كما نسجت تحالفات موضعية مع الكتائب اللبنانية، بل ومع التيار الوطني الحر في بعض الدوائر، كـالبترون.
لكن التحالف الأبرز، والأكثر إثارة للنقاش، كان في بيروت، حيث خاضت القوات الانتخابات ضمن لائحة تضم حزب الله. ورغم أن العنوان العلني لهذا التحالف كان "الحفاظ على المناصفة"، إلا أن ما يبرز خلف هذا الشعار هو أن القوات اللبنانية دخلت مرحلة جديدة من الليونة السياسية، هدفها توسيع الحضور والتأثير عبر تحالفات لم تكن واردة سابقًا.
شهد التيار الوطني الحر خلال العقد الأخير تراجعًا ملحوظًا في حضوره الشعبي والانتخابي، حتى بلغ الأمر حدّ الحديث عن انهيار كتلته الناخبة أو خروجه من المعادلة السياسية. من هنا، اكتسبت الانتخابات البلدية الأخيرة بعدًا استثنائيًا بالنسبة له، بوصفها اختبارًا لوجوده أو غيابه عن الساحة.
أظهرت نتائج هذه الانتخابات أن التيار، رغم تراجعه، ما زال حاضرًا وقادرًا على خوض المعركة وتأكيد الحضور. فقد سجّل أرقامًا لافتة حتى في الأماكن التي خسر فيها، وحقق فوزًا مهمًا في معارك رمزية مثل جزين ودير القمر، فيما اتخذ موقعًا حياديًا في معارك أخرى مثل زحلة، تفاديًا للتصادم غير المجدي. وبذلك، ورغم أنه لم يكن "الرقم الصعب" في هذه الدورة، إلا أن الانتخابات أثبتت أن التيار ما زال حاضرا رئيسيا من المشهد السياسي اللبناني عامة والمسيحي خاصة.
في المقابل، كشفت الانتخابات عن محدودية الماكينة التنظيمية للتيار مقارنة بغيره من الأحزاب، ما أفقده فرصًا كان يمكن أن تؤهله لتحقيق مكاسب إضافية وتوسيع قاعدته الانتخابية، خصوصًا في الدوائر التي كانت بحاجة إلى إدارة انتخابية دقيقة.
حافظ حزب الكتائب اللبنانية في هذه الانتخابات على حضوره التقليدي دون تقدم لافت أو تراجع جوهري. وهو الحزب الذي كان يطمح إلى تحقيق اختراقات في أكثر من موقع، وخصوصًا رئاسة اتحاد بلديات المتن أو تحقيق حضور نوعي في زحلة، غير أن هذه الرهانات لم تتحقق.
شكّلت الانتخابات البلدية في الجبل محطة اختبار إضافية لقياس المزاج الشعبي، خاصة بعد أن تمكنت القوى التغييرية في انتخابات 2022 من انتزاع ثلاثة مقاعد نيابية درزية، أحدها على حساب رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان شخصيًا. من هنا، اكتسب الاستحقاق البلدي أهمية استثنائية، بوصفه مؤشّرًا على مدى رسوخ التحولات التي ظهرت في الانتخابات الأخيرة، أو على العكس، عودة الأمور إلى توازناتها التقليدية.
في قراءة النتائج، بدا واضحًا أن منطق التوافقات كان السيّد في معظم قرى الشوف وعاليه، ما حجَب الاتجاهات السياسية الفعلية للناس. لكن رغم ذلك، برزت إنذارات سياسية محدّدة للحزب التقدمي الاشتراكي، كما في بلدة الباروك، حيث خسر مرشح الزعيم وليد جنبلاط، في دلالة رمزية على بعض التململ داخل القاعدة، وإن دون أن تغيّر هذه النتيجة في الهوية العامة للجبل، الذي حافظ فيه جنبلاط على مكانته وحضوره، إلى جانب استمرار حضور طلال أرسلان.
في المقابل، كانت سطوة الحزب التقدمي الاشتراكي أوضح في البقاع الغربي وراشيا، سواء من خلال الفوز المباشر أو عبر توافقات محلية بدا أنها نالت رعاية مباشرة من المختارة، ما سمح للزعامة الجنبلاطية بتثبيت نفوذها وإدارة التوازنات دون مواجهات مفتوحة.
بالمحصلة، يمكن القول إن القاعدة الدرزية بقيت متمسكة بتوجهاتها السياسية التقليدية، لكن مع إنذارات موضعية خجولة ظهرت خلف واجهة التوافقات، ما يشير إلى أن المزاج العام لم ينقلب، بل يخضع لاهتزازات محدودة لم تتبلور بعد في شكل سياسي بديل.
ينسحب الحديث عن "استمرارية التيار الوطني الحر رغم التراجع" على العائلات السياسية التقليدية في لبنان، التي أثبتت بدورها قدرتها على البقاء وإعادة التموضع، خاصة في الاستحقاقات البلدية حيث يلعب البُعد المحلي والشخصي دورًا حاسمًا.
فقد برز حضور الخازن وإفرام في كسروان، والبعريني في عكار، وميقاتي وكرامي في طرابلس، ومعوّض في زغرتا وغيرها، وأكدت جميعها أنها ما زالت تملك قواعد متماسكة ونفوذًا محليًا فاعلًا.
بشكل أكبر أكد حزب المردة بزعامة فرنجية أن لهم الكعب الأعلى في زغرتا في استمرار لسياق تاريخي مستمر لعقود.
أما أبرز هذه النماذج، فتمثّل في آل المر في المتن، الذين أثبتوا بتحالفهم مع التيار الوطني الحر أنهم لا يزالون رقمًا صعبًا في المعادلة المحلية، بعدما حصدوا رئاسة اتحاد بلديات المتن بفارق كبير (22 مقابل 11) على حساب حزب الكتائب.
في المقابل، تلقّت بعض العائلات السياسية ضربات قاسية، لا سيما في زحلة، حيث خرجت آل سكاف، وآل فتوش، وآل معلوف خاسرة من معركتها البلدية، في مؤشر واضح على تراجع حضورها وتأثيرها أمام تحالفات حزبية أكثر اتساعًا وتنظيمًا.
إذا كان المشهد العام في الانتخابات البلدية قد حافظ، إلى حدّ بعيد، على ثباته بالنسبة لمعظم القوى السياسية التقليدية، فإن الضربة الأقسى طالت ما يُعرف بالقوى التغييرية. ففي العاصمة بيروت، التي كانت أبرز معاقل هذه القوى في انتخابات 2016 و2022، تلقت "بيروت مدينتي" ضربة قاسية، إذ تراجعت نسبتها من نحو 30% عام 2016 إلى حوالي 7% في انتخابات 2025، رغم تحسّن الظروف السياسية نسبيًا لصالح الخطاب التغييري.
ولم يقتصر التراجع على بيروت وحدها، بل انسحب إلى مدن كبرى كصيدا، حيث فشلت اللائحة المدعومة من النائب المستقل عبد الرحمن البزري في مواجهة اللوائح الحزبية التقليدية، وصولًا إلى القرى والبلدات في الجبل والبقاع والشمال، التي غاب عنها الحضور الفعلي للنواب التغييريين، سواء كدعم سياسي أو كوادر تنظيمية.
هذا الاستحقاق فتح الباب أمام مراجعة جوهرية لطبيعة الحالة التغييرية ومصيرها، إذ رأى كثيرون أن ممثلي هذه الموجة فشلوا في التعبير عن تطلعات جمهورهم، ما دفع قسمًا من هذا الجمهور إلى العودة إلى معسكراته التقليدية، أو إلى البحث عن صيَغ تغيير مختلفة، كما حدث في تجربة "نسيج" في طرابلس.
ما تؤكده هذه الانتخابات هو أن القوى التغييرية ليست حالة تنظيمية راسخة كالأحزاب التقليدية، بل ظاهرة جماهيرية متحرّكة تخضع باستمرار لامتحان الثقة والمساءلة. صحيح أن مشاركة النواب التغييريين شخصيًا في أي استحقاق لاحق قد تُعيد رفع نسبة التأييد، لكن البلديات وضعتهم أمام امتحان مباشر، ستكون نتائجه حاسمة في تحديد مستقبل هذه الحالة: إما أن تعيد صياغة نفسها بعمق، أو تتلاشى تدريجيًا من المشهد السياسي.
تكشف الانتخابات البلدية لعام 2025 في لبنان عن مشهد سياسي لم يخرج عن خطوطه التقليدية، لكنه حمل في طيّاته إشارات دالّة. فقد استطاعت غالبية القوى السياسية المحافظة على مواقعها، بعضها عبر استثمار خطابه السياسي وبعضه في ماكيناته التنظيمية، والبعض الآخر عبر التوافقات والتكتيك المحلي، فيما شهدت قوى أخرى انكماشًا واضحًا، لا سيما تلك التي وُصفت بالتغييرية. وفي مقابل تراجع الأخيرة، برزت مرونة بعض الأحزاب في إعادة التموضع والتحالف، كما ظهر في تجربة القوات اللبنانية أو تحالفات التيار الوطني الحر والعائلات التقليدية. فيما استمر المشهد السني المشتت والشيعي المتماسك خلف الثنائي.
لم تكن الانتخابات هذه المرّة مجرد استحقاق بلدي، بل تحوّلت إلى مرآة لواقع سياسي مأزوم يسير بخطى بطيئة نحو إعادة تشكيل توازناته. فرغم هشاشة الدولة، وعدم تحديث القانون الانتخابي، وضعف البنية البلدية، استطاع الاستحقاق أن يُبرز من جديد من يمتلك القدرة على التكيّف، ومن يُعاد إنتاجه رغم التراجع، ومن يعجز عن تجاوز الاختبار الأول.
لقد كانت هذه الانتخابات بمثابة اختبار أولي قبل الانتخابات النيابية المقبلة، والتي ستكون مفصلًا سياسيًا واجتماعيًا مهمًا. وإذا كانت القوى التقليدية قد أثبتت مجددًا مرونتها وقدرتها على الصمود، فإن القوى التغييرية باتت مطالبة بإعادة بناء مشروعها وجدولتها التنظيمية إن أرادت البقاء، لا التعويل على موجة غضب ظرفية.
باختصار، جاءت هذه الانتخابات لتعيد تثبيت المشهد العام، لكن دون أن تُقفل الباب أمام احتمالات التحوّل. فالثابت استعاد موقعه، والمتغير وضع على المحك.
If you have any query about our service please contact with us
May 13, 2025
By Ziad Hariri
June 03, 2025
By Ziad Hariri
June 08, 2025
By Ziad Hariri